ثمة مبانٍ يمنح وجودها صفة خاصة للمكان الذي تتواجد فيه، بل ويبقى تذكّر ذلك المكان واستدعاؤه في المخيلة، منوط بهيئة تلك المباني وبنوعية عمارتها. ومبنى “كلية الهندسة” في باب المعظم (سابقاً)، أحد نماذج تلك الابنية التى ظلت في مخيلة ثلاثة أجيال (او أكثـر) من العراقيين، تُستذكر، عندما يرد الحديث عن تلك المنطقة المعروفة بغدادياً … وعراقياً! فمن، يا ترى، لا يعرف مبنى “الهندسة”، ومن يا ترى، من شباب العراق وطلابه، من الشمال وحتى الجنوب، لم “يحلم” أن يدرس فيها ، ويتخرج منها “مهندساَ”؟!

وكان المبنى (“عمارة” المبنى، على وجه التحديد)، تعي جيداً ذلك الامر، وتدرك خصوصية “المكانة” …والمكان اللذين ارتبطا بها (بتلك العمارة)، هي التي أضفت حضوراً لافتاً ومميزا، و…حداثياً ايضاًعلى بيئة مباني تلك المنطقة “نصف المبنية”! وأمسى إيقاع أعمدتها الآجرية، ذات الارتفاع المزدوج، المحصورة بين كتلتين “فرتكاليتين”وبلون طابوقها الضارب الى الصفرة، بالاضافة الى مقدرة المعمار العالية في “تشغيل” مؤثر لخاصية الظل والضوء، الزاخرة بها حلول المبنى التصميمية، امست تثير انتباه الجميع واهتمامهم وعنايتهم بـ “فورمها” غير التقليدي، وغير المسبوق للابنية التعليمية.
ومبنى “كلية الهدسة”، الذي بدأ في تشييده عام 1936، وصممه ” جون بريان كوبر” (1899 – 1983) J.B. Cooper (وكان، وقتها، يشغل منصب <معمار الحكومة>)؛ لم يشيد لهذه الكلية، على وجه التحديد، وإنما بُنيّ ليكون مقرا “لمدرسة الهندسة”، التى يذكرنا د. عمر الفاروق الدملوجي عن سيرتها عندما ذكر ما يلي”… في سنة 1921 تأسست مدرسة الهندسة العراقية، وكانت تسمى، آن ذاك، كلية الري التدريبية لقبول طلاب عراقيين من خريجي المدارس الابتدائية وتدريبهم على الاعمال الهندسية البسيطة…تنقلت هذه المدرسة في عدة أماكن ببغداد، ففتحت في بناية الكرنتينة في باب المعظم، ثم انتقلت الى بناية مستأجرة في محلة الميدان، وفي حوالي سنة 1927 فك ارتباطها من الري وادرجت ضمن أعمال وزارة المعارف، ونقلت الى جامعة آل البيت في الاعظمية، ورفع مستواها فاصبحت لا تقبل إلا طلابا من خريجي المتوسطات العراقية يدرسون فيها ثلاث سنوات، ثم انتقلت الى مزرعة الرستمية في سنة 1935، انيطت ادارتها بوزارة المواصلات والاشغال، بعد سنين قليلة اصبحت الدراسة فيها اربع سنوات بعد الدراسة المتوسطة. بعد ذلك وافقت الحكومة على تأسيس مدرسة باسم “مدرسة الهندسة” ومرتبطة بوزارة المواصلات، واخذت لها مقرا في بناية في محلة السنك، وفي عام 1938 انتقلت المدرسة الى البناية الجديدة في باب المعظم. وفي سنة 1942 ارتؤي فتح كلية هندسة عراقية، والتى أمست بناية “مدرسة الهندسة: مقراً “للكلية الجديدة”. وظلت كلية الهندسة تشغل هذا المبنى لحين انتقالها الى مجمع الجادرية في سنة 1985.
لم أعثر على المخططات الأصلية للمشروع على الرغم من الجهد الاستثنائي الذي بذلته في سبيل الحصول عليها. ثمة لوحة مخططات، معروفة لدى كثير من المهتمين، عملها “مستر لمزدين”، أحد المدرسين المساعدين في الكلية وقتها (وكان من أصول هندية)، تعيد ما يمكن ان نعتبره مخططات كوبر الاصلية. أما تحديد تاريخ المبنى فيعود الى اللقاء الشخصي الذي تم بين المرحوم حازم نامق وبيني في 13/12/ 1978؛ اذ يذكر الاستاذ نامق بأنه شاهد المراحل الاخيرة لتسقيف مبنى المدرسة إثر رجوعه من انكلترا مباشرة. وكان ذلك في أواخر سنة 1936).
إن شكل المخطط العام للمدرسة يشبه حرف ( T) اللاتيني تقريباً؛ أما صفة التكوين المعماري لها، فهو مبني على الاسلوب التماثلي. يعتمد “كوبر” على نظام الممر الداخلي Central Corridor System ، كنوع من تنطيق مفردات ذلك التكوين. ويثبت مدخل المدرسة الرئيس والقاعة الرئيسية على محوره العرضي. (يستخدم “كوبر” القاعة هنا، كمطعم لطلاب المدرسة). تتكون المدرسة من طابقين: تشغل الادارة وقاعات المحاضرات، وكذلك المطعم مع المطبخ الطابق الارضي، في حين خصص الطابق الأعلى لغرف وردهات القسم الداخلي التابع لطلاب المدرسة. وثمة رواق مسقف يمتد أمام جزء من الواجهة الامامية “الغربية” وهناك، سلّمان يقعان في نهاية الممر وبصورة عمودية عليه؛ وهذان السلّمان يبرزان قليلاً عن كتلة المبنى الاساسية.
ان الامتداد الافقي لتكوين واجهة المبنى (يبلغ طول المدرسة (85) متراً وبارتفاع (9) أمتار تقريباً) – ان هذا الامتداد يتوازن ويتعادل مع ايقاع أعمدة الرواق الشاقولية وكذلك مع فتحات النوافذ ذات الاشكال الطويلة؛ فضلاً عن كتلتي السلمين العموديتين الواقعتين على هذه الواجهة. (تجدر الاشارة بأن ثمة اضافات وتغيرات عديدة طرأت على شكل المبنى في أوقات مختلفة. اذ مد الجزء الخلفي بامتداد القسم الدراسي الامامي؛ واوصل من الجانبين، الامر الذي كوّن فضاءين مغلقين عن طرفي الجزء الايمن الخلفي (القسم الجنوبي- الشرقي). وفي الفترة الاخيرة انفصل القسم الداخلي عن مبنى الكلية وخصصت الفضاءات التي كان يشغلها الى قاعات محاضرات ومختبرات، ثم انتقل المطعم والمطبخ من هذا المبنى، نهائياً، الى مكان آخر داخل مجمع الكلية السابق).
يعتمد القوام الانشائي لمدرسة الهندسة ، كغيره من الابنية التي أنشئت في هذه الفترة، على نظام الجدران الحاملة Bearing Walls أما التسقيف فأنه وفق أسلوب العقادة الآجرية مع المقاطع الحديدية؛ وبغية تسقيف فضاءات كبيرة كغرف المحاضرات وردهات النوم الواسعة فان المصمم يلجأ الى ذات الاسلوب المتبع في جامعة آل البيت وغيرها من المباني التي نفذت آنذاك، أي تقسيم الفضاء الى أجزاء ذات أبعاد قصيرة نوعاً ما بواسطة مقاطع حديدية ضخمة “تستعمل عادة في هذه الحالة “شيلمانتان” الواحدة بجانب الاخرى”؛ ومن ثم يتم التسقيف بالطريقة الاعتيادية. والجدير بالذكر ان المادة الانشائية الرئيسية المستعملة هي الآجر مع مونة الجص. واستعملت الخرسانة المسلحة بصورة مقننة في القوام الانشائي للمبنى “في الجسر الرابط فوق الرواق، وفي الاسس وفي بعض المناطق الاخرى.
ورغم “تقليدية” مخطط المبنى الكلاسيكي، فان المعمار استطاع ان يعّول على خصائص مقاربته المفضلة، مقاربة “الفنون والحرف” Arts & Crafts ، الشائعة بريطانياً، فجاءت مفردات التصميم واضحة جداً، وبسيطة جداً تتسم بتقليدية اثيرة، لكن الأهم فيها هو حذاقة التنفيذ وبراعة التفصيل الموظف بعناية في مبنى المدرسة، ليرتقي المعمار بهذا العمل “الكلاسيكي” الى مصاف المباني المميزة في جغرافية تلك المنطقة. ولتنال عمارة “الكلية” الحظوة والاعجاب من طالباتها وطلابها الدارسين فيها، على مدى سنين كثيرة، وكذلك من “الجمهور” المار بمحاذاتها، والمعتز بشكلها “الجديد” وقتذاك! لكن ما يحز في القلب ويؤلمه، هي نوعية “الترميم”واعمال الصيانة المشينة التى اجريت على المبنى مؤخرا، وخصوصا “لبخ” “نقشة” سقف طارمة المدخل الرئيس الذي اشتهر باسلوب رصف طابوقه المتقن (او ما يطلق عليه بـ <الحصيري>)، محيلة بذلك جماليات تلك النقشة الى “بذاءة” انشائية، بلبخها بمونة الاسمنت بطريقة ساذجة، وغير مهنية اطلاقاً.
شغل “جون بريان كوبر” معمار المبنى البريطاني (المولود في 25 أيار 1899، والمتوفى في 19 كانون الاول 1983) منصب معمار الحكومة في دائرة المباني العامة، عام 1935. وصمم الكثير من المباني المهمة في بغداد، بضمنها، مبنى “الضريح الملكي” بالاعظمية (1935)، وكلية الهندسة (1936)، في باب المعظم، ودار المعلمين الابتدائية والقسم الداخلي فيها الاعظمية (1937)، بالاضافة الى تصميمه بيوت سكن النخبة البغدادية، فقد صمم دارة نوري السعيد في الوزيرية (1936)، ودارة نصرت الفارسي (1937) في الوزيرية ايضا. ثم ترك العراق في سنة 1937، واستدعي في الخمسينيت من قبل مجلس الاعمار لتصميم اهم مبنيين نفذا وقتذاك، وهما ” البلاط الملكي” في كرادة مريم <القصر الجمهوري لاحقاً> (1951-1958)، ومبنى “مجلس الامة” <المجلس الوطني لاحقاًً> في كرادة مريم أيضا (1951-1958). بالاضافة الى تصميمه مبنى مصرف أهلي في شارع المصارف ببغداد بالخمسينيات.

المصدر: جريدة المدى

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا