في أزقة وشوارع بغداد القديمة ، كشوارع الكفاح والشيخ عمر والخلفاء والبتاويين والكاظمية والاعظمية والشواكة ، وصولا الى شارع الرشيد وازقته الزاخرة بالطرز المعمارية الرائعة ، يشاهد المرء هذه البيوت العريقة التي ما زالت تحتضن (شناشيلها) الجميلة التي تتميز بتكوينات زخرفية غاية في الابداع .
ويرى مهتمون بشؤون العمارة انه من الملفت للنظر إن هذه البيوت تتنوع في الطراز الذي بنيت عليه ، وهو على الأغلب يعود إلى العشرينيات من القرن الماضي ، اذ كان يسمى بـ(الركوكو) وهي الكلمة اليونانية الاصل.
وحتى تلك الأعمدة ، التي تسمى ( الآيونيك) بتلويناتها الساحرة والتي بنيت بطريقة كلاسيكية رائعة الجمال والقياس ، تظهر وبشكل جلي دقة الحرفي البغدادي آنذاك في بناء تلك البيوت والشناشيل ، ككيان جمالي تشم فيه روائح الشعر والفن وسحر الهندسة المعمارية.
وتعد بغداد من أهم المدن في العالم التي تحتوي على أماكن تراثية وحضارية كثيرة ، وهذه الأماكن تعد ” كنوزاً لا تقدّر بثمن “. ان الأهمية التأريخية والأثرية تنطلق من كون هذه الأماكن والبيوت التراثية تمتد على مساحات واسعة من مدينة بغداد القديمة وعلى جانبي الكرخ والرصافة ، ويعود تأريخ إنشاء بعضها إلى بدايات العصر العباسي أو إلى العصر العثماني وكذلك إلى العصر الحديث “.
ويؤكد باحثون ان هذا الموروث الحضاري ذو طابع متميز وفريد منذ إولى الحضارات السومرية والأكدية والآشورية والبابلية مروراً بعصر صدر الإسلام والعصرين العباسي والعثماني، اللذين كانا بداية الإنتقال الى العصورالحديثة والتنوع العمراني الحالي ، حيث مزايا الأبنية تنعكس على الواقع البغدادي
لم تزل الشناشيل من أهم المعالم الفلكلورية البغدادية التي طالها الإهمال، وهي تمثل الشاهد لجميع التحولات الاجتماعية والحضارية التي مر بها البلد، وتعد روح بغداد والمدن العراقية القديمة لما لها من عمق تراثي يحتفظ به أهالي تلك المدن، شكلت لوحة تشكيلية خالدة اسمها بيوت “الشناشيل”.
وتلك البيوت تنتشر في مناطق الأعظمية والفضل والبتاوين وأبو سيفين والحيدرخانة والفضل وباب الشيخ في جانب الرصافة، والرحمانية والكاظمية في جانب الكرخ، فضلا عن تواجدها في العديد من مدن العراق مثل البصرة والعمارة وبالتحديد محلة الجديدة والسراي والتوراة في البصرة، بالإضافة الى البيوت الموصلية القديمة، والكثير من الشعراء سحر بها ومنهم السياب والبياتي وكانت مادة دسمة للعديد من الروايات العراقية.
ومن يمر بتلك المناطق يطرب لسماع أنغام المقام البغدادي وأغاني القبانجي ويوسف عمر، وحسين الأعظمي، كذلك يرى الظواهر البغدادية القديمة المرتبطة بروحية تلك الأماكن… نساء جالسات على عتبات البيوت وفتيات يراقبن المارة خلف الشبابيك الخشبية، ورائحة الشاي المهيل وأطفال يمارسون ألعابهم، وكبار السن في المقاهي يستعيدون ذكريات أيام زمان.
الشناشيل توازي في بنائها البيوت المملوكية القاهرية والتي كانت تسمى بـ”المشربيات”، وكذلك بيت الكرتلية في القاهرة القديمة، وتماثل أيضا “الرواشين” في بيوت جدة التراثية، وكذلك البيوت التونسية القديمة.
وبحسب مفهوم المحلة فإن البيوت تبنى متلاصقة جنبا إلى جنب وظهرا إلى ظهر، أما من ناحية تخطيطها فإنها تتصف بنمو تدريجي متجانس مع أزقة تفصلها كتلا بنائية بعضها عن بعض، وأزقتها أو ما يسمونها بالدرابين او الجادات لها مستوياتها من ناحية الطول والعرض وعدد البيوت التي تؤدي إليها والأصغر منها هي الدربونة المغلقة التي لا تعطي أي منفذ بل تؤدي إلى بيوت متقابلة ليس لها منفذ خلفي وتسمى نهاية المحلة.
أشكالها وفنّها المعماري
الشناشيل هو الطابق العلوي المشيد من الخشب وتتميز واجهته بزخارف فنية تبين عمق الحضارة والفن البغدادي القديم لكي تضفي على المبنى لمسة فنية، وهي بمثابة شرف تظهر من خارج أعلى الدار وظيفتها تمنع دخول أشعة الشمس وتمكن أهل الدار من التقارب بين جيرانهم وأيضا تمكنهم من النظر إلى الخارج، كذلك كانت توفر الظل للمارة بين الأزقة.
وأهم مبررات تشييدها وفق ذلك الشكل هو البيئة المناخية الحارة للعراق، والتي كان لها الدور الفعال في تشييد تلك الشرفات لأنها عملت على توفير تيارات الهواء داخل الدور.
إن البيوت القديمة التي شرع البغداديون في بنائها كلها تحاكي البيئة العراقية الحارة، إذ عمدوا في تصميم بيوتهم إلى وجود الباحة الوسطية “الحوش” التي تلتف حولها الغرف والجدران السميكة لكي تمنع التبادل الحراري والسقوف الطينية التي تجعل من جو الغرفة باردة صيفا دافئة شتاءً، كذلك مادة الخشب التي كانت تستخدم في التشييد تسهم في التخفيف من وزن الأبنية وهو ما يتلاءم مع ارض بغداد الطينية التي لا تتحمل الأبنية الثقيلة”.
وكانت الأدوات المستخدمة فيها هي ذاتها المستخدمة في صناعة الخشب، كالمطرقة والمنشار وآلات الحفر التقليدية التي تشبه أزميل النحاتين، إضافة الى المسامير والمواد اللاصقة الخاصة بالخشب والتي هي مادة “الغراء”.
تاريخ الشناشيل
يرجع تاريخ هذه الأبنية كما يرى المهتمون بهذا الشأن إلى عشرينات القرن الماضي، وبعضها يرجع إلى الحقبة العباسية والعثمانية وبعضها قد تم أنشاؤها بدايات العصر الحديث، وقيل أن الشناشيل كلمة فارسية مكونة من مقطعين”شاه_شينين” بمعنى محل جلوس الشاه. أما أعمدتها الملونة والساحرة المنظر والتي تسمى “الأيونيك” بنيت بطريقة كلاسيكية في غاية الروعة، إذ تظهر فيها حرفية المعماري البغدادي في بنائها، ويؤكد الباحثون ان هذا الطراز العمراني ذو طابع فريد ومتميز منذ أولى الحضارات السومرية والأكدية والآشورية والبابلية، مرورا بعصر صدر الإسلام والعصرين العباسي والعثماني، وقد جاءت إلينا عن طريق التأثيرات الأوربية عبر بعض المهندسين العرب والأجانب كذلك من خلال المجلات المعمارية آنذاك وهي تعد كنوزا تاريخية وأثرية لا تقدر بثمن.
وقد انتقلت إلى دول المغرب العربي ولها آثار شاخصة لحد الآن في اسبانيا إذ نقل هذا الطراز من خلال الفتوحات الإسلامية التي قام بها العرب المسلمون هناك وتركوا بصمتهم فيها.
شناشيل البصرة
انتقل بناء بيوت الشناشيل إلى محافظة البصرة منتصف القرن السابع عشر إبان الحكم العثماني، وتنتشر في البصرة القديمة والعشار وابي الخصيب، لكنها مهددة بالزوال حالها حال نظيرتها في بغداد، وتغنى بها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في قصيدته “شناشيل ابنة الجلبي” إذ وصفها قائلا:
شناشيل ابنة الجلبي نور حوله الزهر
عقود ندى من اللبلاب تسطع منه بيضاء
وآسية الجميلة كحل الاحداق
منها الوجد والسهر..
إذ نجد إن اهتمام البصريين بالأعمدة الخشبية وتشييد القناطر الحجرية او الخشبية مع العناية بشكل الزخارف عبر التشكيل الخشبي، بينما نلاحظ البغداديين أولوا عناية خاصة بالقضبان الحديدية ووجود السراديب “التختبوش” في تشييدها.
وفضل البصريون استخدام نوع من الخشب يدعى “الجاوي” نسبة إلى جزيرة “جاوه” في اندونيسيا، مشيرا إلى أن “سكان البصرة القدامى يعمدون إلى طلي شناشيلهم بنوع من الدهان العطري، كما يستخدمون شريطا يربط أجزاء شناشيلهم بعضا ببعض ليضيف إليها قدرا من القوة يساعدها على الاستمرار عقود طويلة.