الباب الوسطاني حكاية بغداد المدوّرة وأقدم مدفع عراقي
أبواب بغداد الأربعة
كثيرا ما بحثت مع نفسي حول الطريقة الأمنية الفاعلة لتخليص وطني من تسلل الإرهاب والإرهابيين اليه، وكلما طالعتني مناظر الحواجز الكونكريتية الضخمة التي تقتل رئة العاصمة ومحافظاتها، تساءلت لماذا لا ترفع هذه الكتل وتوضع حول بغداد أو حول كل حدود العراق وتخصص لها اربع بوابات دخول وخروج وفي أوقات محددة.. مؤكد ان ذلك سيؤثر فعليا في تقليص تسلل الارهاب ورجاله إلينا ويقضي بالتدريج على وجودهم القاتل بيننا، وسنعيد الامتنان وقتها لفكرة الخليفة العباسي «المستظهر بالله» الذي خطط لإنشاء سور يحتوي بغداد مع خندق مائي يحيط به زيادة في عرقلة مشاريع من يريد ايذاء المدينة بغزو او بتخريب. هذا ما خطط له المستظهر لكنه لم يكمل التنفيذ بسبب موته فخلفه المسترشد بالله الذي باشر التنفيذ عام 488 هجرية وجعل للسور اربعة أبواب: باب السلطان ويسمى اليوم بـ»الباب المعظم»، وباب كلواذا وهو ما يسمى اليوم بـ»الباب الشرقي»، اما الباب الثالث فهو باب خراسان وهو الباب الوحيد المتبقي من ذلك العصر ويسمى اليوم بـ»الباب الوسطاني»، والباب الرابع هو باب الحلبة أو «باب الطلسم» وقد اندثر بسبب العثمانيين الذين خزنوا فيه البارود والأسلحة. وفي عام 1917 نسف العثمانيون هذا الباب بعد هزيمتهم أمام الانكليز في الحرب العالمية الاولى حتى لا يستفيد العدو من الخزين العسكري فيه.
بغداد المدورة
قبل سنوات عدة وفي لقاء عمل جمعنا بأمين العاصمة وهو يتحدث عن بغداد المدورة سألت الأمين وقتها هل بغداد ما زالت اليوم مدورة؟ ولم أكن ادري ان السؤال صعب على الأمين الذي تهرب من الاجابة عليه وكنت أعرف جيدا ان بغداد لم تعد مدورة بسبب تضخمها العمراني باتجاهات المسافات الأربع بطريقة عشوائية لم تعتمد التخطيط السليم لحجم الامتداد السكاني والعمراني ولا انشاء مدن ساندة وقريبة لتخفيف العبء عن العاصمة التي تعيش بطريقة شائكة في مواردها وخدماتها وعمرانها.. مدينة بغداد المدورة، بناها الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور عام 762-768م كمقر رسمي للحكومة العباسية. اسمها الرسمي في العصر العباسي هو مدينة السلام.
بنيت على الضفة الغربية لدجلة واستغرق بناؤها اربع سنوات وبلغت مساحتها حوالي اربعة اميال. من اشهر الابنية في المدينة المدورة قصر الذهب وجامع المنصور ومكتبة دار الحكمة (لم يبق من هذه الآثار شيء يذكر الآن). ويعتبر تخطيط مدينة بغداد المدورة ظاهرة جديدة في الفن المعماري الإسلامي ميّزها عن سائر مدن العالم حتى قال عنها اليعقوبي (ولا نعرف في جميع الأقطار مدينة غيرها)، وقد اشتهرت بغداد بهذا الشكل المدوّر حتى وُصِفت بالمدينة المدورة. ولها خندق أُحيطت به وقد شُقّت له قناة من نهر الكرخايا ليجري فيه الماء وهو احد التحصينات العسكرية للمدينة…بغداد المدورة سهلت على الخليفة المسترشد بالله تحديد مخارجها ومداخلها ولم يكن بناء سور للمدينة المدورة –بغداد- فكرة مستحدثة على العراقيين الذين عرفوا أسوار بابل وآشور والحضر، وحين بنى العباسيون السور الذي أحاط مدينتهم كان ما يشغل تفكيرهم هو حجم التهديدات التي تحيق بهم من شرق البلاد وغربها لذا جاء بناء السياج الضخم تحصنا أمنيا مهما لمدينة عظيمة كبغداد التي كانت منارة علم وثقافة وأدب.
سور بغداد
يبلغ طول السور 20 ذراعاً، وارتفاعه 35 ذراعاً. وقد تلاشى هذا السور المهم وانتهى حين أمر والي بغداد مدحت باشا الذي حكم من ( 1869 – 1872 ) أحد سلاطين الدولة العثمانية التي حكمت العراق من (1532 – 1918) بهدمسور بغداد سنة 1870 ملاستعمالطابوقهفيبناء ديوانسراي الحكومة، الذييسمىاليومبمبنىالقشلة، فأنهىذلكالوالياثرا مهما كان يمكن ان يكون واحدا منا لاثار العالمية المهمة، ولميتبقمنتلك الابواب غير باب وحيد يسمى اليوم بـ»الباب الوسطاني»، أو باب الظفرية. وجاء اسم الظفرية لقرب الباب من بستان كبير وجميل اسمه «قراح ظفر». وظفر هو اسم صاحب البستان كما تشير الدراسات التاريخية. ومن هنا سمي الباب بالظفرية، ولكون هذا الباب يتوسط سور بغداد القديم فقد درج البغداديون على تسميته بالباب الوسطاني. لكن العثمانيون أطلقوا على هذا الباب تسمية اخرى هي «باب سفيد» وسفيد تعني باللغة التركية البيضاء او الأبيض.
كما سمي هذا الباب أيضا «باب خراسان» كونه يطل على الشرق في مواجهة ايران. وكان يغلق عند موعد أذان الغروب، وكانت القوافل التي تأتي من هذه الجهة ــ جهة الشرق ــ بعد هذا الموعد تبقى خارج المدينة لليوم التالي حيث يفتح الباب في فجر اليوم التالي، والحق بالباب تحصينات عسكرية مهمة لحمايتها من اية تهديدات ومخاطر يمكن ان تقترب منها لذا بني الباب على شكل قلعة محصنة يصعب على الغزاة اختراقها.
وبني السور من مادة الطين المخلوطة بالتبن «اللبن» التي صبت في قوالب مستطيلة وتم تجفيفه بالشمس وهو ما استخدم في بناء الاسوار والاجسام نصف الأسطوانية الساندة له من الخارج، وكذلك الحيطان الساندة لاجزاء البناء الاخرى لانه يمتاز بليونته ومرونته كما يريد له المعماريون. كما استخدم الطين المفخور «الطابوق»، وهذا النوع من الطين يستخدم في بناء العقود والطوق والقبوات، وكذلك القباب، ويستخدم الطين المفخور بعد أن تضاف اليه مواد اخرى لتنفيذ الاساسات لمقاومته نفاذ الماء.
المعمار البغدادي
تميز الباب بهندسة معمارية متميزة توضح مقدرة المعمار العراقي» البغدادي» وبراعته، يتكون الباب من برج كبير عال اسطواني الشكل تقريباً وبني كله من الآجر، عرض الباب نحو ثلاثة أمتار يعلوها عقد مدبب منفرج الزاوية، ارتفاعه أربعة أمتار، يقوم العقد المدبب فوق دعامتين مندمجتين في الجدار ،وفي كل جانب من جانبي العقد هناك أسد صغير منحوت من قطع الآجر بشكل بارز، وأشكال هندسية مترابطة بارزة قوامها شريطان كل منهما مقسوم الى قسمين يتقاطعان ويكونان شكلاً سداسياً منتظم الأضلاع!
فيها عناصر زخرفية هندسية ونباتية منها أغصان نباتية وفروع نباتية ذات أوراق بشكل أنصاف المراوح النخيلية ثلاثية الفصوص وتؤلف زخارف التوريق العربي المعروفة بالأرابسك.. أما الأشكال الهندسية المنتظمة فيوجد داخل كل واحد منها زهرة الروزيت، وقوام الأشكال الهندسية الخطوط المتداخلة ومتقاطعة وتشكل أطيافاً نجمية ذات اثني عشر رأساً ونجوماً صغيرة ذات أربعة رؤوس تحصر في داخلها نجوماً ذات ثمانية رؤوس، الى جانب ذلك توجد زخارف دقيقة في داخل النجوم والأشكال الهندسية ويعلو البرج في الباب الوسطاني نص كتابي بخط الثلث، وقد زال معظم النص الكتابي وما بقي منه (… ما زالت دعوته الهادية للدين قواماً وللاسلام نظاماً ودولته القاهرة سكينة للامة وعصاماً ومنزلته للسلام).
ويمتاز الباب الوسطاني بصلابته وبجمال زخارفه العربية الإسلامية وقد حاول كثيرون من الذين غزوا بغداد أن يدخلوها من خلاله فلم يفلحوا، ومنهم هولاكو الذي حاصر بغداد وحاول اقتحام هذا الباب مراتٍ عدة فلم يفلح، وكان آخرهم الشاه الإيراني نادر شاه الذي وقف عاجزاً عن اختراق هذا الباب – الحصن. ويعتقد الكثير من المؤرخين أن تصميم هذا الباب وموقعه جعلاه أكثر أبواب بغداد حصانة وقدرة على الدفاع، فهو يمثل تطويرا لفكرة البرج الاسطواني المقبب، الذي يرقى إلى قبته بسلالم ليشرف منها على الفضاء المجاور، الا ان المعماري زاد عليه أن جعل مدخله الداخلي يتعامد بزاوية قائمة مع المدخل الخارجي. ومصمم هذا الباب راعى أسلوب المداخل المدورة التي عرفتها «بغداد المدورة» وزاد من حصانته بأن قدم للباب من الداخل بقنطرة عالية مكشوفة، كما أحاطه ببرج ومساحة مائية واسعة مما زاد من هذه الحصانة، إذ لم يكن ممكنا الوصول إلى السور الا بعد اجتياز قنطرتين على التعاقب حيث يطوق السور خندق مائي عرضه ستة أمتار.
متحفٌ للأسلحة القديمة
خشية من اندثار هذا الباب الوحيد المتبقي من سور بغداد فقد قامت مديرية الآثار العامة في احدى السنوات بصيانته وترميمه ثم اتخذت منه متحفاً للأسلحة القديمة.كانت في هذا المتحف نماذج كثيرة من الأسلحة القديمة لعل أبرزها المدفع.. وكانت المدافع في أول أمرها تطلق بادخال القنبلة من فوهة المدفع ثم الحاقها بالفتيل حتى اذا حصل الاحتكاك بين النار والبارود انطلقت القذيفة.. ومن هذا الطراز كان يوجد في المتحف مدفع كبير طوله (182سم) وقطر فوهته (25سم).. وفي المرحلة الثانية توصلوا الى إحداث الثقب في مؤخرة المدفع والغرض منه ان يكون طريقاً يوصل بين القنبلة والفتيلة وبذلك استغنى عن وضع الفتيلة من الفوهة.
كان يوجد في المتحف نماذج آثارية من المدافع المتنوعة الأشكال والأحجام والمصادر، ضمنها الفارسي، والتركي، ومنها الغربي.. ويوجد أيضاً مجموعة من المدافع عراقية الصنع.
ان أقدم مدفع عراقي في الباب الوسطاني مصنوع سنة (1806م) طوله (125سم) وقطر فوهته (22سم) وهو محمول على عجلة متينة مغلفة بالحديد، كتب على هذا المدفع بعض الكتابات منها أبيات من الشعر باللغة التركية، واسم صانع هذا المدفع والحاكم الذي صنع له، وفي المؤخرة رسم هلال يحتضن كوكباً ذا ثمانية رؤوس.وأضخم هذه المدافع العراقية هو مدفع (اسطة رجب الراوندوزي) الذي صنعه لحاكم الموصل (محمد باشا العلمدار).. طوله (323سم) وقطر فوهته (45سم) ويتميز هذا المدفع بكثرة الكتابات والزخارف عليه، فقريباً من فوهته خطت آيات قرآنية وتحتها ثلاثة أبيات من الشعر يليها اسم صانع المدفع وسنة الصنع وهي (1259هـ) وفي مؤخرته ختم باسم السلطان عبدالحميد خان ابن السلطان محمد خان الذي سبك المدفع في عهده. ان مبدع هذا المدفع هو الأسطة رجب الراوندوزي وهو من المتخصصين القديرين في صناعة المدفعية.. وكانت في المتحف مدافع عديدة تحمل اسمه مؤرخة ما بين سنة 1234هـ ـ و1259هـ.وان أهم المراكز التي كانت تصنع فيها المدافع في ذلك الوقت هي بغداد، والموصل، وراوندوز،، ويبدو انها كانت تنتج بكثرة. ويدل ان حاكم الموصل (محمد باشا العلمدار) كان يملك وحده نحو ثمانين مدفعاً.. وهذه النماذج كانت موضوعة في متحف الباب الوسطاني في بغداد تعطينا صورة واضحة لمهارة وكفاءة وعظمة الأيدي العراقية التي كانت وفي عهد مظلم كالعهد العثماني.. قادرة على ممارسة أثقل وأدق الصناعات كالمدافع..
تأهيل وصيانة
اليوم تكفلت الشعبة الهندسية في وزارة الثقافة بإعادة تأهيل الباب الوسطاني لصالح الهيئة العامة للآثار والتراث وضمن مشاريع بغداد عاصمة للثقافة العربية 2013، وبكلفة 750 مليون دينار رغم ان القائمين على الصيانة ابدوا شكوكهم من عدم كفاية التخصيصات التي لا تتناسب مع حجم الضرر، كونه يقع في منطقة تكثر فيها المياه الجوفية التي تسببت بتآكل أسس المبنى. كما زارت منظمة اليونسكو الموقع قبل ايام للاطلاع عليه، وربما يعتمد ضمن المعالم التراثية العالمية.
وقد سبق وان أجريت عليه اعمال تطوير سابقة في الثمانينيات وفي العام 2003، وتم استخدام المواد نفسها التي بني منها وهي الطابوق الفرشي والجص والنورة”.
وقد مرت صيانته بمراحل مختلفة، وأعيد تأهيله زمن النظام السابق بمادة الطابوق (الجمهوري)، مما أساء كثيراً للموقع فكل العتبات المقدسة والابنية التاريخية بنيت بمادة الطابوق الفرشي. ويحظر استخدام السمنت في مثل هذه المواقع، لذا تم استخدام معدات حديثة لقطع الطابوق الفرشي بقياسات مشابهة للتي موجودة حالياً بهدف الحفاظ على الطراز المعماري الجميل الذي هو واحدا من ثمانية آثار ما زالت شاخصة في بغداد ويحق لمكانتها التاريخية المهمة ان تولى الرعاية والاهتمام المتميز بها دائما.
باب الظفرية
باب خراسان التاريخي اتخذ تسميات عدة، لكن ما بقي خالداً في الذاكرة هو باب الظفرية، لكن لماذا الظفرية؟
الباب يقع بالقرب من منطقة بغدادية قديمة سميت لقربها من بستان كبير وجميل اسمه «قراح ظفر»، والقراح هو مصطلح بغدادي يستخدمه الناس في تلك الفترة للبستان، وظفر هو اسم صاحب البستان كما تشير الدراسات التاريخية ومن هنا سمي الباب بالظفرية، ومع هذه التسمية ظهرت تسميات عديدة بعضها عثماني وبعضها بغدادي محلي ومنها الباب الوسطاني، ويعتقد المؤرخون أن تسمية هذا الباب بالباب الوسطاني جاءت نتيجة توسط هذا الباب سور بغداد القديم، وحدهم العثمانيون لم يعجبهم على ما يبدو الاسم، فسموه بـ«باب سفيد» وسفيد تعني باللغة التركية البيضاء أو الأبيض.
يقول عادل العرداوي المهتم بالآثار العباسية موضحاً لـ«الأسبوعية» أن الباب الوسطاني هو آخر أبواب بغداد العباسية، وهو يمثل واحداً من ثمانية آثار فقط بقيت من بغداد العباسية.
عصيّ على الغزاة
أما السور المحيط بالباب، فقد صنع من طين الأرض الممزوج بعرق العراقيين الذين أكدوا على أن للطين حضوره الكبير في هذا البناء الفخم في العصر العباسي، وقد استعمل بناؤو الباب الطين وفق طريقتين، الأولى تتمثل بالطين الذي يصب في قوالب مستطيلة ذات ارتفاع معين والذي يجفف تحت ضوء الشمس، وهذه الطريقة تنتج الطوب الأخضر وهو مصنوع من التبن والطين مخلوطين، وهذا النوع استعمل في بناء الأسوار والأجسام نصف الأسطوانية الساندة له من الخارج، وكذلك الحيطان الساندة لأجزاء البناء الأخرى لأنه يمتاز بليونته ومرونته كما يريد له المعماريون، أما الطريقة الثانية فكانت تستخدم الطين المفخور والذي يسمى محلياً بالطابوق، وهذا النوع من الطين يستخدم في بناء العقود والطوق والقبوات، وكذلك القباب، ويستخدم الطين المفخور بعد أن تضاف إليه مواد أخرى لتنفيذ الأساسات لمقاومته نفاذ الماء.
الباب وشاه إيران
ويمتاز الباب الوسطاني بصلابته وبجمال زخارفه العربية الإسلامية وقد حاول كثيرون من الذين غزوا بغداد أن يدخلوها من خلاله فلم يفلحوا، ومنهم هولاكو الذي حاصر بغداد وحاول اقتحام هذا الباب مراتٍ عدة فلم يفلح، وكان آخرهم الشاه الإيراني نادر شاه الذي وقف عاجزاً عن اختراق هذا الباب –الحصنـوقديتساءلالبعضعنكيفيةبقاءهذاالبابصامداًفيوجهالهجماتالبربريةالتيتلقتهابغدادعلىمختلفالعصور؟
يعتقد الكثير من المؤرخين أن تصميم هذا الباب وموقعه جعلاه أكثر أبواب بغداد حصانة وقدرة على الدفاع، فهو يمثل تطويراً لفكرة البرج الأسطواني المقبب، الذي يرقى إلى قبته بسلالم ليشرف منها على الفضاء المجاور، إلا أن المعماري زاد عليه أن جعل مدخله الداخلي يتعامد بزاوية قائمة مع المدخل الخارجي، ومصمم هذا الباب راعى أسلوب المداخل المدورة التي عرفتها «بغداد المدورة» وزاد من حصانته بأن قدم للباب من الداخل بقنطرة عالية مكشوفة، كما أحاطه ببرج ومساحة مائية واسعة مما زاد من هذه الحصانة، إذ لم يكن ممكنا الوصول إلى السور إلا بعد اجتياز قنطرتين على التعاقب حيث يطوق السور خندق مائي عرضه ستة أمتار.
شاهد على الطرائف
وكان هذا الباب شاهداً على منافسات شديدة بين شقاوات بغداد ولطفائها، حين كان شقاوات بغداد وشبابها يتبارون بامتطاء الخيول التي يستأجرونها من أصحابها في حلبة سباق طويلة يسميها البغداديون «ساحة الوسطاني» نسبة الى الباب، تمتد من الباب الوسطاني حتى نهاية باب المعظم، وهم يمارسون الفروسية، وكانت هذه المظاهر تتجلى في أيام الأعياد حيث يجتمع شقاوات المناطق المختلفة ليقيموا طقوسهم السعيدة وليظهروا وجههم الآخر وهم المعروفون بالقسوة والشدة، فيستأجر كل منهم جواداً ويشتركون في سباق ودي لطيف حتى ينتهي بهم السباق إلى ساحة قريبة من باب المعظم.
ويتكون باب المعظم من برج كبير عالٍ اسطواني الشكل تقريباً بني كله من الآجر. عرض الباب نحو ثلاثة أمتار، يعلوه عقد مدبب منفرج الزاوية، ارتفاعه أربعة أمتار، يقوم العقد المدبب فوق دعامتين مندمجتين في الجدار، وفي كل جانب من جانبي العقد هناك أسد صغير منحوت من قطع الآجر بشكل بارز، وأشكال هندسية مترابطة بارزة قوامها شريطان، كل منهما مقسوم إلى قسمين يتقاطعان ويكوّنان شكلاً سداسياً منتظم الأضلاع، فيهما عناصر زخرفية هندسية ونباتية، منها أغصان نباتية وفروع نباتية ذات أوراق بشكل أنصاف المراوح النخيلية الثلاثية الفصوص، وتؤلف زخارف التوريق العربي المعروفة بالأرابسك، أما الأشكال الهندسية المنتظمة فداخل كل منها زهرة الروزيت، وقوام الأشكال الهندسية الخطوط المتداخلة وهي تشكل أطباقاً نجمية ذات اثني عشر رأساً ونجوماً صغيرة ذات أربعة رؤوس تحصر في داخلها نجوماً ذات ثمانية رؤوس، إلى جانب ذلك هناك زخارف دقيقة في داخل النجوم والأشكال الهندسية.
ويعلو البرج في الباب الوسطاني نص كتابي بخط الثلث، وقد زال معظم النص الكتابي وما بقي منه (ما زالت دعوته الهادية للدين قواماً وللإسلام نظاماً ودولته القاهرة سكينة للأمة وعصاماً ومنزلته للسلام بإشراق أنوار سرو…).
في عيون الأوروبيين
أعجب الرحالة الأوروبيون بهذا الصرح البغدادي الجميل والحصين ولا تكاد مذكراتهم تخلو من كتابات ما عن هذا الباب، خصوصاً أولئك الذين زاروا بغداد وتعرفوا إلى تراثها وحضارتها عن كثب، فقد أعجب الرحالة الأوروبيون الذين مروا بالباب بحسن تصميمه وجودة مواد بنائه إذ قال عنه بكنكهام في العام 1816، إنه يتميز بالضخامة وبوجود الآجر الذي شيد به وإن دقة تركيبه تضارع أي بناء قديم كان قد شاهده قبلاً، وتحيط بهذا الباب الذي شيد على مدى 134 عاماً مقبرة قديمة، ورغم توقف الدفن فيها منذ عقود فإن محلة الظفرية التي تعد هي الأخرى من المناطق الأثرية في بغداد لم تكتسب من مظاهر التطور شيئاً سوى بعض إعمال الصيانة المتقطعة التي قامت بها مديرية الآثار القديمة منذ ثلاثينات القرن الماضي. الباب الوسطاني الذي أصبح سجناً في عشرينات القرن الفائت تحول بعد ذلك إلى متحف للأسلحة القديمة، وآخر أعمال صيانة أجريت عليه كانت في العام 1958، ومنذ ذلك الوقت لم تجر عليه صيانة حتى يومنا هذا باستثناء محاولات خجولة من هنا وهناك، ففي العام 2003 كانت تولت بعثة اوروبية لصيانة هذا الباب أعادت بعض الأقواس والعقود والجدران المهترئة، لكن أمانة بغداد اتخذت قراراً بالتنسيق مع وزارة الدولة لشؤون السياحة والأثار لبناء منتجع سياحي وترفيهي قرب هذه المنطقة وإنقاذ هذا الباب مما يعانيه من الإهمال والأنقاض التي أثقلت قامته الممتدة على طول التاريخ.