ستون عاماً على مشروع أوبرا بغداد :حلمٌ معماري بطعم الواقع!
في هذا العام (2020)، تمرثلاث وستون عاماً على اعداد مشروع تصاميم “أوبرا بغداد” (1957) للمعمار العالمي “فرنك لويد رايت” (1869-1959)، تلك التصاميم التي عدّت حال ظهورها كإضافة مميزة في الممارسة المعمارية العالمية، مثلما اعتبرت بكونها احدى روائع هذا المعمار العالمي المدهش. وتعرف الأوساط المهنية العالمية، (كما تعترف… ايضاً)، بأن تحقيق تلك التصاميم كان يمكن له ان يكون حدثاً معمارياً ذا أهمية كبرى في المشهد المعماري العالمي وخطابه التصميمي. بيد أن ظروفاً غير مواتية وقعت آنذاك جعلت من عملية التنفيذ امراً معقداً لجهة تشابك أمور عديدة، لم تعمل إيجابياً في صالح تحقيق تلك التصاميم. واليوم اذ تمر كل هذه السنين الطويلة (مرت ثلاث وستون سنة على تاريخ تلك التصاميم)، فإننا نجد الفرصة لا تزال مواتية لتنفيذ ذلك المشروع، ومنح “بغدادنا”، مبناها “الايقوني”، المخصّص لها من قبل ذلك المعمار العالمي الشهير، المحبّ الى هذه المدينة والى تاريخها الأسطوري الجميل.
سبق وأن أعددت دراسة عن جدوى إعادة النظر في إمكانية تحقيق ذلك المشروع المثير على أرض “الواقع”. وبوجود نسخ من التصاميم الأساسية لهذا المشروع، وبعمل مهني مجتهد، يمكن بسهولة أن نمنح عاصمتنا إحدى روائع العمارة العالمية التي انتجتها الممارسة المعمارية الحداثية في القرن العشرين. هذه ليست مبالغة، وليس تلاعباً في الكلمات. انها حقيقة؛ وحقيقة أراها واقعة، وقابلة للتحقيق… وإذ يحدوني أمل كبير، بأن ينال هذا المقترح، (مقترح إعادة النظر بقرار تنفيذ تلك التصاميم)، تأييد الجهات ذات العلاقة ودعمها، التي سبق وأن ناشدتها بأهمية التصاميم المعدّة من قبل رايت، وبإمكانية تنفيذها على أرض الواقع. وإذ اعترف بأن مقترحي هذا ، قد يرقى الى مصاف “الحلم المهني”، لكني اظل اراه “حلماً” قابلاً للتحقيق، أنه حلم بطعم الحدث الواقعي. متطلعاً الى معاضدة زملائي المعماريين العراقيين واهتمام المعماريين العالميين في مسعاي هذا، فالمشروع إياه بخاصة أحد أهم تصاميم حقبة الحداثة المعمارية. أدناه مناشدتي السابقة، التي أرسلتها لأصحاب القرار، والتي اعيدها الآن، بمناسبة هذه الذكرى الستينية على تصاميم رايت المميزة. فعسى ولعل!
<اعلنت وزارة الثقافة العراقية على موقعها الالكتروني الخاص، عن تنظيم مسابقة معمارية عالمية لتصميم دار الاويرا العراقية في تاريخ 21 تشرين الاول (اكتوبر) 2009، ثم حددت الوزراة يوم 28 كانون الثاني 2010، كآخر موعد لقبول تصاميم مشروع دار الأوبرا، وفقاً لتصريح الناطق الرسمي للوزارة في 16 كانون الاول 2009. واختارت الوزارة موقعاً لدار الأوبرا العراقية في بغداد بجانب الكرخ، وهو موقع محاذي لنهر دجلة ومحصور بين جسري الجمهورية والرشيد (السنك). كما اشترطت الوزارة أن يتضمن التصميم المقترح جملة من الاشتراطات الخاصة باللغة المعمارية وكذلك فيما يخص نوعية الجوانب الهندسية الخدمية الأخرى.
من المعروف أن واقعة تشييد مبنى دار الأوبرا، يعتبر حدثاً معمارياً غاية في الاهمية، في أية مدينة تبنى فيها مثل تلك الصروح الثقافية؛ وفي بعض الأحيان تعد مباني الأوبرا بمثابة “ايقونة” بصرية للمدينة التي تشيّد فيها. كما أن حدث بناء الاوبرا ليس أمراً عادياً، لجهة ندرته وفرادة موضوعه، وامكانية أن يكون المبنى لاحقاً أحد المعالم الرئيسة الحضرية، فضلاً عن ما يتطلب تنفيذه من كلف مالية عالية. كل هذه العوامل وغيرها، تجعل من بناء دار الأوبرا العراقية ببغداد، حدثاً استثنائياً في مجال العمارة، وحالة فريدة في طبيعة وظائفه الثقافية. وهو ما تنشده، بالطبع، وزارة الثقافة للحصول على تصميم معماري مميّز يراعي جميع المتطلبات بإعلانها عن مثل تلك المسابقة>.
<وانطلاقاً من اهتمامي المهني والاكاديمي العميق وخبرتي فيهما الممتدة لعقود من السنين، وحرصي على أن أرى عاصمتنا بغداد مدينة حافلة بالانجازات والمشاريع المعمارية المرموقة، أجد أن مقترح المعمار الامريكي “فرنك لويد رايت” (1869-1959) Frank Lloyd Wright ، الخاص بمبنى “دار اوبرا بغداد”، والمصمم في سنة 1957، يمكن أن يكون الحل الأمثل والموضوعي لجميع المتطلبات التي تسعى وزارة الثقافة اليها، في مايخص تصميم مبنى الأوبرا الجديد، وذلك للاعتبارات التالية:-
أولاً- إن المعمار فرنك لويد رايت، هو من الاسماء العالمية المشهورة في مجال العمارة، وله انجاز تصميمي مميّز، ويعتبر هذا الانجاز الآن (كما اعتبر سابقاً) جزءاً مهماً وأساسياً في منجز الثقافة الانسانية. وكثير من نماذج تصاميمه محفوظة الآن في السجل الثقافي العالمي الذي ترعاه منظمة “اليونسكو”. وتحظى اعماله المعمارية وكذلك نظرياته الخاصة بالتصميم ولاسيما مقاربته المعروفة “العمارة العضوية” Organic Architecture على اهتمام اوساط مهنية واكاديمية عريضة، كما تدرّس أعماله ونظرياته في جامعات عالمية مختلفة، وتنشر كتب عنه وعن أعماله بشكل دائم في جميع انحاء العالم.
ثانياً – إن التصميم المقترح، هو تصميم معدّ لمدينة بغداد حصراً. وقد تم اعداده بطلب من المسؤولين العراقيين وقتذاك (مجلس الإعمار)، وانجزت التصاميم الأولية له عام 1957، وقد حازت التصاميم إياها على اهتمام كبير من لدن الأوساط المهنية والثقافية، وتم نشر تلك التصاميم في اشهر المجلات المتخصصة. وأفردت مجلة Architectural Forum واسعة الانتشار عدداً خاصاً في مايس 1958 لها. ولا تزال تثير تلك التصاميم قدراً كبيراً من الاهتمام لحين الوقت الحاضر، وتنشر تصاميمها في مختلف الكتب والمجلات التي تتناول عمارة رايت، وآخرها الكتاب الضخم (XL) الذي أصدرته في عام 2009 دار نشر “تاشين” Taschen العالمية، والتي اولت صفحات كثيرة الى تصاميم اوبرا بغداد. ومعروف أن رايت على امتداد عمره الطويل، (بلغ عند وفاته من العمر 90 سنة)، قد انجز مئات التصاميم المعمارية ، لكنه لم يصمم قط خارج بلده الولايات المتحدة سوى في حالتين: الاولى كانت في اليابان (الفندق الامبرطوري 1916-1922 في طوكيو، والثانية كانت في بغداد، حيث اعدّ عدّة تصاميم ذات وظائف مختلفة انجزها في 1956-58، بضمنها دار الاوبرا).
ثالثاً – تعد اللغة التصميمية المعدّة من قبل رايت والخاصة بمشروع الاوبرا في بغداد، لغة مميزة واستثنائية. ومثلما تعبر عن مرحلة مهمة في منجزه التصميمي الشخصي، فإنها تمثل أيضاً مرحلة مهمة في منجز العمارة العالمية. وهو قد فضّل العمل على تصاميم اوبرا بغداد، بدلاً من الاشتراك في مسابقة “دار اوبرا سدني” في استراليا، والتي نظمت في نفس وقت، اعداد اوبرا بغداد تقريباً. وآثر المجيء شخصياً لتقديم تصاميمه الى المسؤولين العراقيين، في سفرته النادرة والوحيدة الى بلاد ما بين النهرين التي يكنّ لها حباً واحتراماً عميقين.
رابعاً – توجه، في العادة، غالبية العواصم العالمية التي تروم تشييد مبانٍ مهمة، وخاصة مباني دور الاوبرا، دعوة مباشرة الى معماريين عالميين معروفين ومشهود لهم بالكفاءة والتميز، وتكلفهم بإعداد مثل هذه التصاميم (ومشروع تصميم اوبرا بغداد تم وفق هذه الصيغة)؛ وذلك لضمان الحصول على تصميم معبر وكفْ ، والأهم امكانية اقتران مثل هذا المبنى باسم المعمار العالمي المعروف؛ زيادة في أهمية المبنى وشهرته عالمياً.
خامساً – بوجود عدد لا بأس به من مخططات مبنى اوبرا بغداد المعمولة من قبل رايت والمحفوظة الآن لدى مؤسسة (Foundation) فرنك لويد رايت في امريكا،(ارفق قسماً منها مع هذا التقرير)، يجعل اختيار تصميم رايت امراً عملياً وميسراً. وبإجراء تغييرات على منظومات الخدمات، يمكن الحصول على مبنى بعمارة مميزة تظل محتفظة في هيئتها الاصلية، وتكون متجاوبة،في نفس الوقت، مع متطلبات التقدم الحاصل في مجال تقنيات الخدمات.
سادساً- تضمن الجهات المعنية باختيار مشروع رايت لمبنى الاوبرا في بغداد، الحصول على مبنى متطور وعصري بمستوى دولي مرموق، نظراً لاهتمام منظمات مهنية وثقافية عديدة بهذا الاختيار. كما أن هذا الاختيار سيحث مؤسسات عالمية مختصة في الإرث “الرايتوي” على المساهمة الجادة في تنفيذ هذا المشروع عن طريق تقديم دعمها الفني والهندسي له. ولنا قناعة بأن هذا الاختيار سيحظى بقبول وارتياح المؤسسات المهنية الوطنية، مثلما سيحظى بمساندة ودعم المنظمات المعمارية الاقليمية والدولية؛ لما يكنه الجميع من احترام عميق الى فرنك لويد رايت وعمارته، كونه أحد مؤسسي عمارة الحداثة المهمين، وصاحب التصاميم المميزة.
سابعاً- أن عملية توظيف مخططات سابقة تعود لشخصية معمارية مهمة، واستخدامها لاحقاً في تشييد مبنى معاصر، هي حالة معروفة في الممارسة المعمارية وإن لم تكن شائعة. وتضفي واقعة اعادة الاستخدام اهمية خاصة مضافة الى اهمية الحدث المعماري الفريد، ما يزيد من شهرة المبنى المنفذ ويرفع من اهميته لدى المتلقين في اوساط عديدة. ويُذكر عادة في هذا الصدد، واقعة اعادة بناء “جناح المانيا في معرض برشلونة الدولي سنة 1929، المعمار: ميس فان دير روّ (1886-1969) L. Mies van der Rohe” الذي ازيل في سنة 1930، وتمت اعادته بنائه في فترة 1983-1986، استناداً الى صور قليلة التقطت له بالأبيض والاسود في حينها. (اي بعد مرور نفس الفترة الزمنية تقريباً التي تفصلنا اليوم عن تصاميم رايت البغدادية). ويعد مبنى الجناح في الوقت الحاضر، المكان المفضل والمعلم البارز في عموم مدينة برشلونة، ويحظى باهتمام معماري العالم وكثير من الزوار. كما أن ممارسة البناء وفق تصاميم سابقة جربتها مدينة بغداد أيضاً، عندما تقرر تنفيذ مبنى “قاعة الالعاب المغلقة” في الرصافة، والتي تم افتتاحها في مطلع الثمانينات، وفق تصاميم تعود، كما هو معروف، الى فترة الخمسينات وتحديداً الى عام 1956، عندما كلف وقتها، المعمار الفرنسي والعالمي “لو كوربوزيه” (1887-1965) Le Corbusier من قبل مجلس الإعمار في اعداد تصاميم ملعب رياضي مفتوح وقاعة العاب مغلقة، في موقع اختير له في الاصل أن يكون في جانب الكرخ بارض معسكر الوشاش (متنزه الزوراء حالياً). وهناك ممارسات عديدة مماثلة شهدتها مدن عالمية، تكرر فيها تشييد ابنية معاصرة وفق تصاميم مميزة عملت سابقاً ولم تنفذ في حينها.
ثامناً– تطمح كثير من مدن العالم أن تستضيف في فضائها الحضري، تصاميم معماريين عالميين معروفين، لقناعتهم بأن مثل تلك التصاميم ستكون كفوءة وظيفياً، ومميزة شكلاً، وحافلة بالقيم الجمالية الرفيعة؛ هذا فضلاً عن ضمان شهرتها ، المستمدة من شهرة المعمار المصمم لها. ويستوي في هذا الطموح الدول الغنية والفقيرة. فمثلاً أن دولة بنغلادش التي تعتبر دولة فقيرة نسبياً، استضافت أحد أهم المعماريين الامريكان في الستينات لتصميم مبنى البرلمان، الذي تعتبر عمارته الان احدى التحف المعمارية المشيّدة في القرن العشرين بأكمله!.
والآن، يمتلك بلدنا العراق مثل هذه الفرصة التأريخية النادرة، عندما يقرر تنفيذ تصاميم اوبرا بغداد للمعمار فرنك لويد رايت>.
وبما أن المسابقة المعمارية التى دعت اليها وزارة الثقافة قد نظمت على عجل، ولم تنشر على نطاق واسع، كما لم يروج لها بما فيه الكفاية في الأوساط المهنية العالمية ولم يطلع عليها كثير من دور الاستشارة الدولية، ولا اظن قد تمت ترجمة اعلان المسابقة الى لغات اجنبية، للوصول الى اكبر قدر ممكن من دور الخبرة المعمارية العالمية. وحسب علمي فقد أهمل جانب الدعوات المباشرة لمكاتب استشارية عالمية للمشاركة في هذه المسابقة. ولهذا اتوقع بأن النتائج ستكون دون الطموح. لكني أيضاً اعيّ التزامات الوزارة الداعية لهذه المسابقة، مقترحاً أن تستمر اللجنة المكلفة بتسلم المشاريع المشاركة في المسابقة، وأن يصار الى تحكيمها ومن ثم منح مستحقاتها المعنوية والمالية الى المشاركين / الفائزين، وحسب القواعد المرعية في مثل هذه الأحوال.
وكما تعرفون، فإن العمل المعماري الناجح عليه ان يوفر حلولاً وظيفية وتقنية كفوءة، وأن تتمثل تلك الحلول، في الوقت عينه، وتتجسد بصيغ وهيئات مبتكرة وبمعالجات تشكيلية وفضائية على قدر كبير من المهنية والجمالية. لا جدال بأن الجوانب التقنية وحتى الوظيفية يمكن بسهولة تهيئتها من قبل غالبية المصممين. يبقى الجانب الآخر المهم والاساس في العمل المعماري، وهو كيفية صياغة تلك الحلول في قالب مميز وغير مسبوق وحافل بلغة جمالية عالية وفريدة. ونرى أن هذا الجانب قد تم تحقيقه بالكامل في تصاميم اوبرا بغداد للمعمار فرنك اويد رايت، للأسباب التى اشرنا اليها أعلاه. وبالطبع يمكن ذكر حجج آخرى كثيرة، تصب كلها في صالح قرار اختيار تصاميم رايت لمشروع الاوبرا العراقية. لكني سأكتفي بما ذكرته، متطلعاً أن ابذل قصارى جهدي وبالتعاون مع مهندسين مخلصين في سبيل جعل مشروع دار الاوبرا، مشروعاً معمارياً مميزاً يتناسب مع ما ننشده جميعاً لرؤية عاصمتنا الحبيبة بغداد، مدينة تزخر في مشاريع معمارية ذات طابع فريد ومهم واستثنائي. وكون مشروع مبنى الاوبرا البغدادية لرايت كان مصمماً أصلاً في موقع مختلف (اختير له موقع جزيرة ام الخنازير سابقاً في نهر دجلة)، فإن هذا الأمر يتعين أن لا يكون عائقاً كبيراً في شأن اختيار التصميم للتنفيذ في الموقع الحالي. اذ أن جهداً معمارياً وتخطيطياً بسيطاً يمكن به أن تتم مواءمة تصميم رايت السابق مع متطلبات الموقع المحدد الجديد.
واخيراً، اود التنبيه الى أن لغة عمارة الاوبرا قد امتحنت مصداقيتها بشكل جليّ وبيّن، عندما تم تنفيذ مبنى “قاعة غرادي غاماج التذكارية” (1962-1964) في اريزونا بالولايات المتحدة، وفق جزء من مخططات اوبرا بغداد، بعد أن تغاضى المسؤولون العراقيون عن مخططات الاوبرا البغدادية وتم إهمالها. والقاعة الآن مسجلة ضمن “السجل الوطني (الامريكي) للمواقع التاريخية”. وبتأثير نفس المخططات البغدادية، فقد تم تصميم وتنفيذ “مبنى المركز البحري المدني المحلي” في سان رافائيل / كاليفورنيا (1958-1962)، والمبنى أيضاً مسجل ضمن السجل الوطني، ويعتبر من المعالم المهمة في الولاية الامريكية وفي عموم الولايات المتحدة. (ارفق صور المبنييّن مع هذا التقرير). إن كل هذا يدلل على اهمية وحيوية وحداثة وفرادة تصميم اوبرا بغداد، تلك التصاميم التى نرى فيها حلاً موفقاً وصائباً لهدف المسابقة التي اعلنتها وزارة الثقافة العراقية مؤخراً. هذا فضلاً عن ما يمثله تنفيذ تلك التصاميم من اهمية فائقة للمدينة، وللعمارة، ولعموم الحراك الثقافي المحلي الذي يرقى باهميته الى مصاف الأحداث العالمية الممّيزة.
اغتنم الفرصة لأقدم اسمى اعتباراتي
المصدر: المدى